سيدخل الرئيس الأمريكي المنتخب الجمهوري دونالد ترامب، المكتب البيضاوي للمرة الثانية بعد أقل من شهرين من الان وهو محمل بخبرات وتجارب 4 سنوات من ولايته الرئاسية الاولى، وكم هائل من الوعود الصغيرة والكبيرة. كما انتعش سوق التصريحات غير العادية والتي تختزل القضايا المعقدة بجملة واحدة. تحليلات أحادية الجملة بما فيها “ترامب هو تاجر، وسيتجنب حربا جديدة”!
وجاء في مقال نُشر في مواقع إيرانية، إن هذه الشخصية النرجسية الشعبوية في السياسة الأمريكية – والذي يطلق على نفسه تسمية رجل المحادثات الكبرى- كان في ولايته الرئاسية الأولى، يحمل نظرة ورؤية خاصة تجاه المعاهدات الدولية بما فيها اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا NAFTA) وخطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي) ومعاهدة الشراكة العابرة للمحيط الهادئ (TPP)، واتفاق باريس للمناخ ومجلس حقوق الانسان واليونسكو، إذ يمكن في ظل تحليلها، التوصل إلى تنبؤات وتكهنات حول أداء السنوات الأربع المقبلة لترامب وطريقة تفكيره، وكونه واحدا من أكثر السياسيين تذبذا وتقلبا في المزاج وغرابة في الأطوار ولا يمكن التنبؤ بمزاجه.
إن ترامب ونظرا إلى أنصاره المتعنتين المحيطين به الذين يعتمدون ضربا من “عبادة الشخصية” تجاههه، هو شخصية بسيطة وفي الوقت ذاته معقدة. فهو يتصرف كشعبوي يتخذ قراراته، بطريقة تلقائية وفجائية، وعندما يكون متاجرا متكسبا، تصبح سلوكياته منسجمة ومدروسة.
ورغم أن ترامب مُحاط بالمحافظين الجدد وجماعة تفوق العنصر الأبيض المتطرفة، لكنه لا يقيم تحالفا دائما وطويل الأمد مع أحد. وإن كانت أدبياته بمستوى طفل في الفصل السادس الابتدائي، لكنه بارع في انتقاء الكلمات الخاصة التي يحبذها هو.
وسيمثل الشعار العام “إستعادة أمجاد أمريكا” بجانب شخصيته الشعبوية ونزعته الفاشية والتفوقية العنصرية، بوصلة قراراته وخوارزميته الفكرية.
إضافة إلى أن ترامب، قد ازداد سنا بأربع سنوات، وأصبح أكثر عصبية ونجح تقريبا بإزاحة الجمهوريين المستقلين الذين شاكسوه في الجولة الأولى من رئاسته في وزارة العدل ومجلس الشيوخ.
لذلك فان القرارات التي سيتخذها لحساب أو على حساب الدول، ستحظى بدعم داخلي أكبر. على سبيل المثال، إن أراد الدخول في المفاوضات النووية أو نوع من العلاقات الدبلوماسية مع ايران، فان بوسعه تحطيم حاجز مجلس الشيوخ!
هل سيتجنب ترامب حربا جديدة؟
إن شعاره الانتخابي من أنه لن يُقحم أمريكا في حرب جديدة، لا يستند إلى شخصيته النرجسية! وسيبقى ترامب والترامبية، بعيدين عن حرب جديدة طالما كانت نفقاتها تثقل كاهل الاقتصاد الامريكية، لكنه لن يُعرض عن حرب يتقبّل الاخرون تسديد فاتورتها.
إن ترامب، يكره أن يتبنى هو تسديد نفقات أمن “أوروبا الكسولة” و “العاجزة عن دفع الفاتورة”، لكن أن دفع الناتو فاتورته أو أن يدفع العرب، التكاليف العسكرية الأمريكية، فانه سيتخطى ببساطة ذلك الوعد.
إن ترامب التاجر، الذي تعاطى لعمر مع الأرقام والأعداد، يعرف جيدا أن 5 إلى 10 بالمائة من الاقتصاد الأمريكي، متوقف على الحرب، وينتعش في ضوء الحروب التي يدفع تكاليفها الحلفاء، وتخلق فرص العمل!
وبالمناسبة، فان حربا جديدة خاصة في منطقتنا هذه، تتناغم مع شعار “استعادة أمجاد أمريكا”. ويكفي أن يلقنه المتطرفون الذين يشكلون فريق الأمن القومي ووزارتي الدفاع والخارجية: إن نمو المنظومة البيئة في هذه المنطقة يعني تدفق الدولارات النفطية على البورصة الأمريكية!
ترامب والنافتا
إن اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا NAFTA) المبرمة بين كندا والمكسيك والولايات المتحدة، وضعت بعد سنوات من التجاذبات، موضع التطبيق. وبنفس العبارة التي نعت بها ترامب الاتفاق النووي ووصفه له بانه “أحد أسوأ الاتفاقات التي أبرمت لحد الان”، فانه صفع اتفاقية النافتا المهمة أيضا بالعبارة ذاتها.
الاتفاقية التي صودق عليها بعد عقدين بدعم من الحزب الرئيسيين ومحادثات بوش الأب الجمهوري وتبنيها من قبل المجلس الديمقراطي وتنفيذها على يد بيل كلينتون الديمقراطي.
ومع انسحابه من النافتا، طالب ترامب بإجراء محادثات جديدة مع كندا والمكسيك، الأمر الذي حظي بقبول هذين البلدين على الفور، ووُقّعت ونُفّذت تحت العنوان الجديد USMCوذلك بعد إدخال تعديدلات طفيفة عليها.
وفيما يخص ما حدث بالنسبة للنافتا هو عودة شخصية شعبوية، بمعنى أنه قبل هذا الشعبوي، لم يكن ليخطر على بال أحد على الأرجح أن هكذا اتفاق بين الاقتصاد الأول في العالم وبلد نامِ مثل المكسيك، سيؤدي إلى تدفق فرص الأعمال الانتاجية على الدولة المجاورة!
وبالمناسبة، فان أحد الأسباب الرئيسية للنافتا بالنسبة لمصمميه ومخططيه، هو معالجة مشكلة الهجرة غير النظامية للمكسيكيين إلى أمريكا عن طريق إعادة تأهيل اقتصادهم؛ والنقطة الأهم أن ثلث الصادرات الأمريكية، كانت تذهب إلى البلدين المجاورين.
ترامب، إیران والاتفاق النووي
إن الجمل ذاتها التي استخدمها ترامب بشأن النافتا، استخدمها هذه المرة بشأن الاتفاق النووي لكن بحدة أكبر وتكرار أكثر: “أحد أسوأ الاتفاقات المُوقعة لحد الان.”
وهذا المرة، اكتسبت خاصية ترامب التراجعية، أهمية أكبر في وجود رجل شعبوي، لان الاتفاق النووي كان حصيلة سنوات من الجهد الذي بذلته إدارة باراك أوباما وحلفائه في الجانب الأخر من الاطلسي. إن إحدى ذرائعه في نعت الاتفاق النووي بـ “أسوأ الاتفاقات” هو عدم انتفاع وتكسب أمريكا بشكل عام من الاتفاق. لكنه كان جليا، أن الاتفاق النووي الذي كان يؤتى على ذكره بانه أحد أضخم إنجازات الدبلوماسية على مدى قرون، لم يكن قابلا للاحتمال من قبل شخص يعتبر نفسه أفضل مفاوض على مرّ التاريخ، حتى وإن دعمه محازبوه.
إنه كان يرى أنه سيعيد ايران إلى طاولة المفاوضات من خلال الانسحاب من الاتفاق النووي وممارسة الضغوط القصوى عليها. وكان يصوّر ايران بأنها شركة تؤدي العقوبات القصوى إلى تراجع اسهمها في السوق، وبالتالي تتحقق صفقة كبرى بتوقيعه في ظل الضغوط التي سيمارسها المساهمون عليها.
وطبعا كان لوجود أشخاص بمن فيهم نيكي هيلي وجون بولتون ومايك بومبيو، أثرا في قراره بالانسحاب، لكن شخصيته الأنانية والمحبة للذات التي تقلب الطاولة، لها الأفضلية في خوارزميته الفكرية وتتفوق حتى على آراء مستشاريه الذين اختارهم هو بنفسه.
وبلا شك، فان إدخال تغيرات طفيفة على أقسام من بنود الاتفاق المعقد، كان بالامكان جعله يواجه نفس مصير النافتا، ولعل النسخة المعدلة للاتفاق النووي بتوقيع ترامب، كانت ستتحول من أسواء اتفاقية في تاريخ أمريكا إلى أفضل اتفاقية في تاريخ البشرية، وهذه الفرصة ما زالت سانحة لترامب المفاوض العملاق!، الذي يُسمي نفسه موّقع اتفاقية كبيرة مع ايران، حتى وإن أدخلت تغيرات طفيفة على الاتفاق النووي المعقد!
إنه حريص على حرمان الصين من النفط الايراني زهيد الثمن والمهرب. حتى أن إحياء العلاقات مع ايران، لا تشبه في خوارزمية ترامب الفكرية، تعقيدات مناقشات الجمهوريين والديمقراطيين.
أن يكون على غرار نيكسون الذي ابتدع مبادرة العلاقة مع الصين؛ مبتدع مبادرة العلاقة مع ايران، ستكون بالنسبة له أكثر تعقيدا على الأرجح من علاقات “كابيتول هيل”.
وبالضرورة، فان أشخاصا شعوبيين ونرجسيين مثل ترامب، لا ينظرون إلى القضايا المعقدة بنظرة بسيطة، لكنهم يملكون قدرة أن يبيعون الحلول البسيطة للقضايا الشائكة إلى حماتهم ببساطة، وإظهار تلك الحلول على أنها خاصة! بعد نعتها بصفتي “الأفضل والأسوأ”.
ترامب و TPP
إن أكثر إجراءات ترامب غرابة، والتي كانت في تعارض مع مصالح أمريكا وشعار “استعادة أمجاد أمريكا” وتبرز بوضوح خوارزمية تفكيره، هو انسحابه من أحد أضخم منظمات التجارة الحرة المعروفة بـ معاهدة الشراكة العابرة للمحيط الهادئ (TPP)، والتي كانت من إنجازات إدارة باراك أوباما وبهدف خفض تبعية الدول المهمة المطلة على المحيط الهادئ للاقتصاد الصيني الآخذ بالنمو!
وتأسيسا على هذه المعاهدة، كانت صادرات أمريكا تزداد ويتم احتواء الصين! بطريقة ما. لكن انسحابه من TPP أظهر أن خوارزميته الفكرية، تصرفت بطريقة تكون مضادة أحيانا لشعاراته وحتى مصالح أمريكا.
والخلاصة أن ترامب يملك شخصية خاصة به، وأن التعاطي معه لا يتبع مكونات وعناصر ثابتة. إن شخصيته سهلة ممتنعة (معقدة)، فلا يمكن التعويل على التزامه بالسلام ولا يمكن خوض محادثات طويلة معه.
انتهى
التعليقات