براغماتية تركيا تجاه روسيا والغرب

-خلال الحرب الباردة، لعبت تركيا دورا بصفتها مدافعة قوية عن التيار الجنوبي لأوروبا ضد التهديد السوفييتي، وكانت تنسق دائما مع حلفائها الغربيين في إطار منظمة حلف شمال الأطلسي. لكن على مدى العقود الماضية، تعرضت هذه الثقة للتحدي. لقد خلقت علاقة تركيا الوثيقة مع روسيا وتصاعد التوترات مع الولايات المتحدة وبعض الحلفاء الأوروبيين صورة غير مؤكدة لتركيا كعضو يمكن الاعتماد عليه في الهيكل الأمني ​​الغربي.

في العقد الماضي، شهدت العلاقات الثنائية بين روسيا وتركيا تغيرات كبيرة تحت قيادة فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان. ولم يقم هذان الزعيمان بتوجيه مسار هذه العلاقات بشكل فعال فحسب، بل قاما أيضا بحمايتها من التحديات والأزمات المحتملة؛ خاصة في أزمات مثل ليبيا وسوريا، حيث تعارضت أهداف أنقرة وموسكو مع بعضهما البعض.

ولموازنة النفوذ الروسي، سعت تركيا في بعض الأحيان إلى الحصول على دعم أجنبي، لكنها تقاربت مع روسيا في بعض الفترات. ويمكن رؤية أمثلة على هذا التقارب في وقت مبكر من تأسيس الجمهورية التركية والاتحاد مع الاتحاد السوفياتي. إن عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1952 والتعاون الاقتصادي مع الاتحاد السوفييتي في ستينيات القرن الماضي يظهران بوضوح مدى تعقيد العلاقة بين البلدين. واليوم، وبسبب التحديات المشتركة التي يواجهها البلدان في علاقاتهما مع الغرب، تحولت تركيا وروسيا مرة أخرى إلى التعاون الثنائي في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية.

إن علاقات تركيا المتوترة مع الغرب وتفاعلها الانتهازي مع روسيا هي جزء من محاولة أردوغان لإعادة تحديد موقع تركيا على الساحة العالمية. تتبع هذه الدولة، مثل العديد من القوى المتوسطة، سياسة حذرة تعطي فيها الأولوية للمصالح المالية والاقتصادية والسياسية على المستوى الدولي. ومن أجل فهم هذه العلاقات بشكل أفضل والتنبؤ بمستقبلها، هناك حاجة إلى تحليل أعمق للديناميكيات الحالية لتشجيع تركيا على التوافق بشكل أوثق مع حلفائها في الناتو.

الجوانب الأمنية

يعد الأمن أحد الركائز الأساسية للعلاقات بين روسيا وتركيا. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، دخلت هاتان الدولتان إلى وضع جديد لم يعد يقتصر على مواجهة كتلتين عسكريتين. أتاحت هذه التطورات فرصة لأنقرة وموسكو لمراجعة علاقاتهما الأمنية وإدارة الخلافات وخلق مجالات للتعاون المشترك. ويتواجد كلا البلدين في مناطق واسعة بما في ذلك البلقان والبحر الأسود وجنوب القوقاز والشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وعلى الرغم من أن مصالحهم في هذه المجالات تتعارض في كثير من الأحيان مع بعضها البعض، إلا أن هناك أيضا فرصا للتعاون. سمحت نهاية الحرب الباردة بمزيد من التعاون، على الرغم من أنها شكلت مرحلة جديدة من المنافسة.

على مدى العقد الماضي، ساعدت ثلاثة عوامل رئيسية في تعزيز التقارب بين أنقرة وموسكو: أولا، أثبت رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين نفسيهما كزعيمين قويين يتمتعان بميول استبدادية متزايدة، مما يسمح لهما باتخاذ المزيد من القرارات الفردية. ثانيا، أحدثت التطورات الأمنية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد الربيع العربي، إلى جانب تراجع النفوذ الأمريكي، تغيرات كبيرة في المعادلات الإقليمية. وثالثا، دخلت روسيا في مواجهة أعمق مع الغرب وكثفت جهودها لتقويض التحالفات التي تقودها الولايات المتحدة، بما في ذلك حلف شمال الأطلسي. وأدت هذه التطورات إلى تعزيز التقارب بين أنقرة وموسكو.

ومن وجهة نظر الكرملين، كان يُنظر إلى تركيا باعتبارها شريكا حيويا في تعزيز مصالح روسيا الإقليمية والعالمية ضد الولايات المتحدة والغرب. إن اتساع الخلاف بين تركيا وشركائها الغربيين حول قضايا مثل سوريا، وحقوق الإنسان، ودعم المنشقين المحليين، وعملية الانضمام المتوقفة إلى الاتحاد الأوروبي، جعل من تركيا لاعبا رئيسيا على الجبهة عبر الأطلسي، في مواجهة حلفائها التقليديين. كما استغلت روسيا هذه الفجوات وحولتها إلى رافعة جيوسياسية مهمة من خلال تعزيز التعاون في مجال الطاقة وزيادة اعتماد أوروبا على غازها عبر تركيا.

الجوانب الاقتصادية

تعتمد تركيا على الواردات لإمدادات الطاقة، وتلعب روسيا دورا رئيسيا في توفير هذه الاحتياجات. منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، زاد الاعتماد على الطاقة بين البلدين بشكل كبير، وأصبحت تركيا ثالث أكبر مستهلك للوقود الأحفوري الروسي. ويظهر تطور خطوط أنابيب الغاز الطبيعي وزيادة تجارة النفط والفحم، العمق المتزايد لعلاقات الطاقة بين البلدين، والتي تعززت خاصة بعد العقوبات الغربية ضد روسيا.

كما توسع التعاون في مجال الطاقة بين روسيا وتركيا ليشمل مجال الطاقة النووية؛ وتتولى شركة روساتوم مسؤولية بناء أول محطة للطاقة النووية في تركيا في أكويو، الأمر الذي أثار مخاوف بشأن أمن البنية التحتية الحيوية في أراضي الناتو. بالإضافة إلى ذلك، لعبت روسيا دورا داعما مهما لتركيا من خلال تمويل المشاريع وتقديم خصومات خاصة في صفقات الطاقة؛ وهو الدور الذي عزز موقف حكومته، خاصة خلال حملة أردوغان الانتخابية.

ومن وجهة النظر الجيوسياسية، يشكل التعاون في مجال الطاقة أهمية خاصة لكلا البلدين. ومع محدودية وصول روسيا إلى الأسواق الأوروبية، أصبحت تركيا واحدة من الطرق الرئيسة لصادرات الطاقة إلى الاتحاد الأوروبي. يمنح هذا الموقف أنقرة نفوذا مهما ضد موسكو ويساعد تركيا على تعزيز دورها كمركز إقليمي لشراء ومعالجة وتصدير النفط والغاز من جيرانها الأغنياء بالطاقة.

لقد غيرت الحرب في أوكرانيا ميزان القوى بشكل كبير في العلاقات بين تركيا وروسيا ووضعت تركيا في وضع متفوق نسبيا. وفي الوقت الحالي، تعتمد روسيا على الشراكة مع تركيا أكثر من اعتماد تركيا على التعاون معها، وقد دفع هذا الأمر موسكو إلى إبداء مرونة أكبر تجاه مطالب أنقرة، خاصة خلال انتخابات 2023. وحتى في الأزمات الإقليمية، حاولت روسيا كسب رضا تركيا والاستفادة من دعم أنقرة.

خلقت حرب بوتين على أوكرانيا تأثيرات دائمة على مكانة روسيا العالمية، في حين توفر فرصا جديدة لتركيا لتعزيز علاقاتها مع الغرب ودعم أوكرانيا. وتحاول تركيا اتباع سياسة خارجية مستقلة من خلال الحفاظ على علاقات متوازنة مع روسيا مع تقليل اعتمادها على روسيا. ويكتسب هذا النهج الحذر أهمية خاصة بالنظر إلى التهديدات النووية والدور الذي تلعبه تركيا في حلف شمال الأطلسي.

وعلى الرغم من اعتماد تركيا الكبير على الطاقة الأحفورية الروسية، تسعى أنقرة إلى تنويع مصادر الطاقة وتقليل المخاطر القائمة. تعمل تركيا على ثلاثة افتراضات أساسية: الحفاظ على علاقات إيجابية مع روسيا من أجل تجنب انقطاع تدفقات الطاقة، والحفاظ على السوق التركية لروسيا في مواجهة العقوبات، وتقليل المخاطر المرتبطة بمشروع محطة أكويو للطاقة النووية. ومن أجل تعزيز موقف تركيا في الإطار الأمني ​​للغرب، يتعين على صناع القرار السياسي على ضفتي الأطلسي أن يعملوا على توسيع التفاعلات السياسية، وتعزيز التعاون في مجال الدفاع، والانخراط في حوار أعمق بشأن الطاقة وتغير المناخ.

آخر الكلام

شهدت العلاقات التركية الروسية تغيرات كبيرة في العقود الأخيرة، خاصة في ظل قيادة أردوغان وبوتين. وتحاول تركيا خلق توازن بين التفاعل مع روسيا والتعاون مع الغرب، وخاصة حلف شمال الأطلسي، وحماية مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية. ومع ذلك، فإن قرب تركيا من روسيا وشراء نظام الدفاع اس 400 يتناقض مع التزامات أنقرة تجاه الناتو ويثير الشكوك في اتجاه السياسة الخارجية التركية. وقد أدى تعزيز التعاون في مجال الطاقة باعتباره أحد المجالات الرئيسية للعلاقات بين البلدين، خاصة بعد العقوبات الغربية ضد روسيا، إلى تعزيز مكانة تركيا كأحد الطرق المهمة لصادرات الطاقة الروسية إلى أوروبا.

وعلى الرغم من التحديات التي تشهدها العلاقات بين البلدين، تمكنت تركيا وروسيا من إدارة علاقاتهما بشكل مؤقت والحفاظ على المصالح المشتركة في مجالات مثل الشرق الأوسط والبحر الأسود. وفي الوقت نفسه، تسعى تركيا إلى تقليل اعتمادها على الطاقة الروسية وتنويع مصادر إمداداتها من الطاقة، وفي الوقت نفسه، تتخذ خطوات لتعزيز التعاون الأمني ​​والسياسي مع الغرب. هناك دلائل على التقارب التدريجي بين تركيا والغرب، ومن الممكن أن تلعب الأعمال المشتركة في مجالات الدفاع والطاقة والدبلوماسية دورا مهما في تعزيز مكانة تركيا في البنية الأمنية للغرب.

المصدر: موقع فرارو

————————

المقالات والتقارير المنقولة تعبر عن وجهة نظر مصادرها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع

————————–

 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *